كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المارد «بدم صاحبكم» الدية، وهو احتمال قوي ايضًا. لأن العرب تطلق الدم على الدية. ومنه قوله:
أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة ** بعيدة مهو القرط طيبة النشر

ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد قالا: حدثنا الوليد (ح) وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا الوليد غن أبي عمرو، عم عمرو بن شعيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قتل القسامة رجلا من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء على شط لِيَّة البحرة قال القاتل والمقتول منهم. وهذا لفظ محمود ببحرة أقامه محمود وحده على شط لية. اهـ. وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله: عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما ترى. وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا وقال: هذا منقطع، ثم اقل: وروى أبو داود ايضًا في المراسيل عن موسى بن إسماعيل، عن حماد عن قتادة، وعامر الأحول عن أبي المغيرة: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقاد بالقسامة الطائف وهو أيضًا منقطعز وروى البيهقي ي سننه عن أبي الزناد قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، أن رجلًا من الأنصار قتل وهو سكران رجلًا ضربه بشويق، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيواز فحلفوا خمسين يمينًا وقتلوا، وكان يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة، ويرونها للذي ياتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره.
ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه: ان معاوية كتاب إلى سعيد بن العاص: أن كان ما ذكرنا له حقًا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا.
وقال البيهقي في سننه ايضًا: أخبرنا أو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد: أن هشام بن عروة أخبره: أن رجلًا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة.. فذكر الحديث في قتله قال: فركب بحية بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك. فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب، فنى عليهم الأيمان، فطلب أل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما. فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه. فحلفو على الصهيبي فقتلوه. قال هشام: فلم ينكر ذلك عروة، ورأى أن قد اصيب فيه الحق، وروينا فيه عن الزهري وربيعة.
ويذكر عن ابن أبي ملكية عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير: أنهما أقادا بالقسامة.
ويذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه رجع عن ذلك وقال: إن وجد اصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس. فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة انتهى كلام البيهقي رحمه الله.
هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة.
وأما حجج من قال: لا يجب بها غلا الدية- فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب».
قال النووي في شرح مسلم: معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فإما أن يدوا صاحبكم- أي يدفعوا إليكم ديته- وإما أم يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا. فينتقض عهدهم، ويصيرون حربًا لنا.
وفيه دليل لمن يقول: الواجب بالقسامة الدية دون القصاص. اهـ كلام النووي، رحمه الله.
ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح البخاري وغيره: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفتسحقون الدية بإيمان خمسين منكم» قالوا: هذه الرواية الثابتة في صحيح البخاري صريحة في أن المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص.
ومن أدلتهم أيضًا ما ذكره الحافظ في فتح الباري قال: وتمسك من قال: لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمرك قسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يمينًا، وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي: أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران ووادعةة أن يقاي ما بين القريتين. فإلى ايهما كان أقرب أخرج غليه منها خمسون رجلًا حتى يوافوه في مكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهمن ثم قضى عليهم الدية. فقال: حقنتم بأيمانكم دماءكم، ولا يطل دم رجل مسلم.
قال الشافعي: إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث غير مقبول. انتهى. وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد: أن قتيلًا وجد بين حيين فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم طأن يقاس إلى أيهما اقرب فالقى ديته على الأقرب ولكن سنده ضعيف.
وقال عبد الرزاق في مصنفه: قلت لعبد الله بن عمر العمريك أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا قلت: فأبوبكر؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال لا. قلت: فلم تجترؤو عليها؟ فسكت.
وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر قال: في القسامة: توجب العقل ولا تسقط الدم. انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
فهذه هي أدلّة من قال: إنّ القسامة توجب الدية ولا توجب القصاص.
وأما حجة من قال: إن القسامة لا يلزم بها حكم فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه، ولم يعلموا أحق هو أم باطل، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء من آل أبي قلابة، حدثني أبو قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قال: نقول القسامة القود بها حق، وقد اقادت بها الخلفاء. قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ نصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين، عند رؤوس الأجناد وأشراف العرب! أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوت على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه، أكنت ترجمه؟ قال لا.
قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال لا. قلت: فو الله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل أو رجل زنى بعد إحصان. أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام.. إلى آخر حديثه.
ومراد أبي قلابة واضح، وهو أنه كيف يقتل بإيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروه!
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة، وهذه حججهم.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي دليلًا- القود القسامة. لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم» وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى. ولم يثبت ما يعارض هذا. القسامة أصل وردت به لسنة، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع. كما ذهب إليه أبو قلابة في كلامه المار آنفًا. لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه. شرع لحياة الناس وردع المعتدين، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك.
تنبيه:
اعلم- أن رواية سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة التي فيها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم: لما سأل أولياء المقتول هل لهم بينة وأخبروه بأنهم ليس لهم بينه قال: «يحلفون» يعني اليهود المدعى عليهم، وليس فيها ذكر حلف أولياء المقتول أصلًا- لا دليل فيها لمن نفى القود بالقسامة. لأن سعيد بن عبيد وهم فيها، فأسقط من السياق تبدئة المدعين باليمين. لكونه لم يذكر في روايته رد اليمين. ورواه يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار فذكر ان النَّبي صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان أولًا على أولياء المقتول، فلما أبوا عرض عليهم رد الأيمان على المدعى عليهم. فاشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها. وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية سعيد بن عبيد (في باب القسامة)، وذكر رواية يحيى بن سعيد: (في باب الموادعة والمصالحة مع المشركين) وفيها: «تحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم» الحديث. والخطاب في قوله: «تحلفون وتستحقون، لأولياء المقتول».
وجزم بما ذكرنا من تقديم رواية يحيى بن سعيد المذكورة على رواية سعيد بن عبيد- ابن حجر في الفتح وغير واحد. لأنها زيادة من ثقة حافظ لم يعارضها غيرها فيجب قبولها. كما هو مقرر في علم الحديث وعلم الأصول.
وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا} [البقرة: 73] الآية: وقد أسند حديث سهل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بدأ المدعينك يحيى بن سعيد، وابن عيينةن وحماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفي، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل. فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظن وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد.
وقال مالك رحمه الله في الموطأ بعدأن ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أن يبدأ بالأيمان المعون في القسامة فيحلفون. اهـ محل الغرض منه.
واعلم أن العلماء أجمعوا على أن القسامة يشترط لها لوث، ولكنهم اختلفوا في تعيين اللوث الذي تحلف تخلف معه إيمان القسامو. فذهب مالك رحمه الله إلى أنه أحد الأمرين:
الأول: أن يقول المقتول: دمي عند فلانز وهل يكفي شاهد واحد على قوله ذلك، أو لابد من اثنين؟ خلاف عندهم.
والثاني: أن تشهد بذلك بينة لا يثبت بها القتل كاثنين غير عدلين.
قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعته ممن أَرْضَى في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث- أن يبدأ بالإيمان المدعون في القسامة فيحلفون، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين: إما أن يقول المقتول دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم. فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه عليه. ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين. اهـ محل الغرض منه، هكذا قال في الموطأ، وستأتي زيادة عليه إن شاء الله.
واعلم أن كثيرًا ن أهل العم أنكروت على مالك رحمه الله إيجابه القسامة بقول المقتول قتلني فلان. قالوا: هذا قتل مؤمن بالإيمان على دعوى مجردة.
واحتج مالك رحمه الله بأمرين:
الأول: أن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت: الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيء. وقد دلت على ذلك آيات قرآنية. كقوله: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10]، وقوله: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [النساء: 18]، وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 84] إلى غير ذلك من الآيات.
فهذا معهود من طبع الإنسان، ولا يعمل من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره، وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له.
الأمر الثاني: إن قصة قتيل بني إسرائيل تدل على اعتبار قول المقتول دمي عند فلان.
فقد استدل مالك بقصة القتيل المذكور على صحة القول بالقسامة بقوله قتلني فلان، أو دمي عند فلان- في رواية ابن وهب وابن القاسم.
ورد المخالفون هذا الاستدلال بأن إحياء معجزة لنبي الله موسى، وقد أخبر الله تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرًا جزمًا لايدخله احتمال- فافترقا.
ورد ابن العربي المالكي هذا الاعتراض بأن المعجزة إنما كانت في إحياء المقتول، فلما صار حيًا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد.
قال: وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه. فلعله أمرهم بالقسامة معه. اهـ كلام ابن العربي. وهو غير ظاهر عندي. لأن سياق القرآن يقتضي أن القتيل إذا ضرب ببعض البقرة وحيي أخبرهم بقاتله، فانقطع بذلك النزاع المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72]. فالغرض الأساسي من ذبح البقرة قطع النزاع بمعرف القاتل بإخبار المقتول إذا ضرب ببعضها فحيي والله تعالى أعلم.
والشاهد العدل لوث عند مالك في رواية ابن القاسم. وروى اشهب عن مالك: أنه يقسم مع الشاهد غير العدل مع المرأة وروى ابن وهب: أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم: ان شهادة المرأتين لوث. دون شهادة المرأة الواحدة.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافًا كثيرًا. ومشهور مذهب مالك: أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي، قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبج الحكم.
وممن أوجب القسامة بقوله دمي عند فلان: الليث بن سعد وروي عن عبد الملك بن مروان.
والذين قالوا بالقسامة بقول المقتول دمي عند فلا، منهم من يقول: يشترط في ذلك أن يكون به جراح. ومنهم من أطلق.
والذي به الحكم وعليه العمل عند المالكية: أنه لابد في ذلك من أثر جرح او ضرب بالمقتول، ولا يقبل قوله بدون وجود أثر الضرب.